رحلة الشمال، وسواليف كثيرة

بعد نشري للتدوينة الأخيرة، ذهبت إلى المحل لأصلح حقيبتي.. قال لي صاحب المحل من الآخر، تستطيع شراء حقيبة جديدة بنفس سعر إصلاح هذه الحقيبة.. وإن الحقيبة ليست ذات قيمة لإنفاق المال عليها، لكنه سيفعل أي شيء أطلبه، أقدّر صراحته. في المحل كان هناك رجلٌ رحبّ بي لدرجة أنّي حسبته من أصحاب المحل.. وعندما خرجت سلّم عليّ بحرارةٍ أيضًا، لكنّي عرفتُ من حديثه أنه زبون مثلي.. مسافر جاء من الولايات المتحدة.. هذه طبيعة بعض النّاس، منفتحين.. على النّاس، والأحاديث.. والحياة! 

بعدها توجّهت إلى السوق، وجدتُ أكثر من حقيبة.. إحدى الحقائب كانت غالية الثمن، ولأجلها رغبت بإطالة عمر حقيبتي، لأشتريها فيما بعد.. 

ووجدتُ حقيبةً أخرى.. جيدة وقوية، وبنفس سعر إصلاح حقيبتي كما قال الرجل تمامًا. 

المشكلة فقط.. الفترة الأخيرة صرت أميل بشكلٍ كبير إلى الألوان الفاتحة، والحقيبة كانت سوداء اللون. 

لا أعرف كيف.. لكنّ صرتُ ألاحظ أنّي ميّال لارتداء الفاتح على الفاتح.. أبيض مع بيج، أو رمادي/أزرق فاتح.. ألوان أخرى أحبّها هي الأخضر والبنفسجي. 

لا أعرف من متى صارت مسألة الألوان مهمة أصلًا! لمَ أركز على هذا؟ أحاول تجاهل هذا الصوت، بنفس الوقت.. لا أحب اللجوء للأسود.. لا أعرف، الأسود خيار بسيط.. سهل تكون أنيق بالأسود. 

وأنا.. مشكلة أخرى، في داخلي إنسان بسيط.. يودّ أن تكون الحياة بسيطة، وفي داخلي إنسان فنّان.. لا أستطيع كبته.. ينعكس على أشياء كثيرة في حياتي، منها الملابس! 

ماعلينا، أخذت الحقيبة السوداء.. وعند المحاسبة.. قالت لي المرأة: تعرف أنّي امتلك مثل هذه الحقيبة منذ سنين؟ وقامت تمدحها، ولا ليست تمدحها لأنها تعمل في المحل، لأنهما علامتين مختلفتين! وهذا جيد..

أكملتُ الهدية كما كنت أخطط في التدوينة الأخيرة، فطرت.. وهوجست قليلًا بسبب الرحلة التي كنتُ أحاول ألّا أفكّر فيها.. أوهم نفسي أنّي لستُ متوترًا وأنام.. لكن جسدي يتعامل مع الأمر بشكل مختلف.. ويصيرُ نومي متقطعًا. 

أعرف نفسي، أعرف صفاتي السيئة.. أحدها، صفةٌ كانت ظاهرة بشكلٍ واضح أيام مراهقتي.. وهي أنّي أتراجع وألغي الخطط وأختفي، أحيانًا وغالبًا حتّى بدون سبب.. لكم أن تتخيلوا معاناة أهلي وأصدقائي! 

مثلًا، نتفق أن نسافر سفرةً قصيرة.. أو نذهب إلى رحلة.. أحيانًا شيء بسيط مثل صلاة الفجر في المسجد أو عشاء.. لكن مالذي يحدث؟ بحر يشعر بشعور غريب يؤججه وإنه يرغب بالاختفاء وعدم التحرّك والغاء كل شيء.. وفعلًا يتصرّف وكما لو إنه مات وماعاد موجودًا. 

هل صرت ملاكًا الآن؟ لا طبعًا، أتمنى! هل اختفى هذا الشعور؟ لا.. موجود.. الفرق فقط، ممكن وطأته أخف، لأنّي جرّبت شعور آخر أصعب منه.. شعور أن تخيّب أمل الناس، لهذا.. مازال يصاحبني هذا الشعور كثيرًا قبل مناسبات وطلعات وسفرات كثيرة.. لكنّي فقط أحاول، أن أشدّ على نفسي قليلًا.. 

لهذا، لآخر لحظة.. لم أكن واثقًا بنفسي تمامًا، قبلها كانت فكرة هذه الرحلة موجودة.. وكنت أسأل نفسي، ضروري يابحر؟ ماهو ضروري.. وأفكّر، صحيح أنا سافرت.. لكن كلها سفرات “ضرورية”.. دراسة، عمل، معاملات… ماعمري سافرت وحدي اختيار، لشيء.. على قولة أبا البحار “غير ضروري”. 

لا أعرف لمَ، في الأول من فبراير.. هذا التاريخ الذي صرتُ أعتبره ميلادٍ ثانٍ لي (:.. كنتُ أفكّر أنه يجبُ عليّ القيام بأمرٍ ما.. وبالفعل قمت بأكثر من عملٍ مختلف.. ثمّ قررت أن أراسل صديقي، لاحجز رحلة.. في يومٍ واحد، فقط لأسلّم عليه. 

هذا صديق عزيز، لن أتحدث عنه كثيرًا في هذه التدوينة.. لكنّ ببساطة شديدة، لم يكن البحرُ بحرًا لولاه.. أشياء كثيرة، أساسية.. فيّ، في شخصيتي وتكوينها، بتأثيرٍ منه.. 

لكن أنا خيّبته في أحيان كثيرة، لذلك لا يتوقع منّي الكثير.. أتذكر دعوته لي في أحيان عديدة، لحفلات من أداءه.. أو حفلات موسيقية وفنّية أخرى، لحفلة خطوبته، مواقف عديدة.. أشعرُ أنه يرغب فيها بوجودي فعلًا لأنه يقدرّني.. وأنا بعيد، وغير موجود.. ولا أحاول الاقتراب حتّى.. 

والآن، كانت هناك فرصة لألتقي به، وهو.. يستحق كلّ عنوة. 

استيقظت في الفجر، استحممت.. صلّيت، وضعتُ آخر الأشياء في الحقيبة.. حملتُ قطعتين من الملابس احتياطًا، وخرجتُ من البيت السادسة صباحًا.. أخذتُ القطار الأول، تأخرت عن الثاني، تأخرت عن الثالث.. كانت المسارات معقدة بالنسبة لي، وقتها كان صديقي يراسلني ليطمئن، إن كان صديقه أبو نكبة سيصل أم لا.. قلت له إن شاءالله.. وأنا في نفسي.. ما كنت واثق بنفسي! ولا كنت قادر أتوتر حتّى لأن تعرفون، البرود مخيّم عليّ.. كنت أفكّر أنّي مستمر في طريقي.. وإذا الله كتب سأصل للمطار!

من بدل أن آخذ ساعة أخذتُ ساعتين حتى أصل للمطار، وصلتُ في الثامنة والربع.. ورحلتي كانت عند التاسعة، لم تكن عندي أي أمتعة عدا حقيبة الظهر “الجديدة :p” فدخلتُ التفتيش.. وهذا الذي لم أحسب حسابه.. كان التفتيش أشدّ مما كنت أتوقع، فتحوا أغراض أكثر مما كنت أتوقع.. وفصخوني أكثر مما كنت أتوقع، عندما انتهيت.. لم يكن هناك وقت حتّى لإدخال الأشياء داخل الحقيبة ولا حتّى لارتداء طبقات الملابس التي أزلتها.. فببساطة حملتُ كل شيء في يدي ما استطعت وبدأت بالركض، وأعتقد أنّي كنت أسمع صوت يقول ” يا أبا البحار يا تنكة ” أول ماوصلت عند البوابة.. أظن منظري كان واضح.. استقبلتني موظفتان ومباشرة عرفوا في أي رحلة أنا وأدخلوني، نزلت للباب الذي يخرج إلى المدرج.. وكانت الطيارة واقفة.. صعدت، كلّ الناس في مقاعدهم، صاحبكم آخر من صعد.. تقريبًا! 

راسلتُ صديقي، وتنفست.. أعدت ترتيب الأغراض.. ارتديت ملابسي.. وأقلعنا (: 

كانت تمطرُ في مدينتي في الفجر لهذا تبللت كثيرًا، وعندما شارفتُ على الوصول.. شمسهم كانت طالعة! وصلنا.. الأرض كانت مفتوحة، لا أعرف كيف أوصل لكم هذا.. لكن الأرض فيها سِعة، المطار رايق جدًا.. أخذت حافلة.. ٢٠ دقيقة من المطار حتى وسط المدينة، في الحادية عشر ظُهرًا قابلت صديقي وخطيبته (: 

أوّل لحظة أظنّ أني ما استوعبت أنهم أمامي، قضيت معهم الوقت من الحادية عشر حتى الخامسة مساءً.. ست ساعات متواصلة! هذا كثير.. صديقي كان يتحلطم قائلًا أنّي معاملهم معاملة “دوام” وراجع.. 

مشينا مشيًا خلويًا طويلًا، زرنا معرضًا فنيًا، شربنا القهوة ثم تناولنا الطعام.. 

أتذكر أحد الأصحاب هنا، عندما نأكل في مطعم وأبدأ بحمل الملعقة مع الشوكة أو السكين.. يقول لي:

” Don’t bring the European nonsense to this ethnic household” 

وعندما ننتهي من الطقطقة والضحك، كلنا نستخدم هذه الأدوات للأكل. 

لكن هذه المرة، عندما حملت الشوكة والسكين لم يقل صديقي شيئًا، بل رمقني بنظرة.. “فلّش عليّ”، بشكلٍ كافٍ لأتركها وآكل بيدي. 

هذا الموضوع ما يفرق عندي أبدًا، المهم بالنسبة لي يكون من حولي مرتاحًا أثناء تناول الطعام.. ولم أكن أعرف تحديدًا كيف سيتعامل صديقي وخطيبته مع الطعام، تبيّن أنهم يفضلون أن نأكل جميعًا من نفس الطبق.. بل أن خطيبة صديقي طلبت طبقًا من الحلوى، وأصرّت أن نشاركها إياه. 

وفي مثل هذه المواقف، في الأكل تحديدًا.. تعرف، لأي درجة الشخص متقبلك.. 

قبل فترة، أعطاني أحد الأصحاب صندوقًا من الحلوى.. صندوق، داخله حلويات مغلفة.. كنت في الجامعة وكنت أفكّر إن هذا كثير عليّ، لذا قررت مشاركته مع زملائي.. في أول درس.. قليل من زملائي قبلوا الحلوى، ولا أخفيكم أني استغربت رفضهم قليلًا..ربما يتوجسون من أخذ طعامٍ من النّاس، أو لا يأكلون السكريات.. ربما هذا جزءٌ من الثقافة لم أفهمه. 

في الدرس الثاني، أخرجت الصندوق.. جميع زملائي أخذوا منه، إضافةً إلى الاستاذة التي سعدت به، فكّرت، ربما لأن هذا هو الصف الذي تبادلنا فيه الهدايا.. طبخت لنا الأستاذة، جلبنا الطعام وأكلنا سويةً؟ لأن بيننا “عيش وملح”؟

في نفس الدرس، فتح أحد زملائي كيسًا صغيرًا من الحلوى.. وأكل منه، ثم دعا الأستاذة وسعدت بأخذه أيضًا، كان يمازحه أحد زملائنا قائلًا “عزمتها عندما لم يتبقى أي شيء!” وهذا.. مرةً أخرى، يبين لي كيف الأستاذة تتقبله.. تتقبلنا. 

المهم، نعود إلى يوم الرحلة! أعطيتهم هداياي الصغيرة.. ودعتهم، وعدت من جديد.. الحافلة، الطائرة، القطار الأول، والثاني، والثالث.. 

أثناء عودتي، كنت مستأنسًا.. مايضحكني الآن هو تسجيل سجلته لأحد أصدقائي أثناء عودتي، كنت أمشي متوجهًا لمحطة القطار.. ولأنّي كنت أحدثه أثناء المشي فقدت احساسي بالوقت والمكان.. كنت أقول له” والله بوصل البحرين لو استمريت كذا”، وبالفعل تخطيت المحطة وعدتُ لها، في هذا التسجيل.. صوتي يقول الكثير عن الحالة التي كنتُ فيها. 

من الخامسة مساء، وصلتُ البيت عند العاشرة.. حينما وصلت مدينتـ”ـنا”، حيّـ”ـنا، عمارتـ”ـنا”.. البيت! استوعبت فقط، وأنا أتأمل المشهد اليومي المعتاد من النافذة، كيف هذا المكان.. كيف ومتى صار البيت؟ ومن متى صار بامكانه حمل كلّ هذه الألفة؟ 

هذه الرحلة السريعة كانت مهمة، لأنّي قابلت أناس عزيزين.. أولًا، ولأنها أعطتني مساحة لاستيعاب أشياء كثيرة.. أحيانًا.. تحتاج الخروج، الابتعاد.. للاستيعاب. 

كيف نفسية أبا البحار؟ نفسية كثير.. دائمًا أخرج، أحيانًا أجلس مع أحدهم ساعة ساعتين وأختنق، كما كتبت في تدوينة سابقة.. ممكن قضاء الوقت مع الآخرين يحسسني بالغربة أكثر.. وهذا يجعلني أشعر بالسوء، بعلةٍ فيٍ.. علّة مصاحبة أنّي عندما أعود في المساء، بعد مقابلة النّاس تحديدًا.. أكون في أضعف حالة في اليوم، سماع كلمة واحدة إضافية ممكن يفتتني إلى أجزاء صغيرة..

ومن جهة أخرى، ماعندي قدرة على إعطاء الكلام، عاجز عاجز عاجز، بحر الذي يكتب هذه كلّ هذه الكلمات صعب خروجه في الواقع، موجود بس صعب يطفو على السطح.. والنّاس ممكن تحلل صمتك بأشكال عديدة، ولا أي أحد بيصبر عليك.. أو بيشعر بالراحة في مثل هذا الجو… 

لكن؟ هذا ماهو حالي الدائم، فيه حالات أخرى.. ظهرت بالأمس، حتى لو كنت أعرف.. أحتاج للتذكير.. أنّي ممكن، أحس أنّي في طبيعتي.. أسمع، أتحدث.. أضحك! حتى لو مرت لحظات عديدة وأنا في صمت، لم أكن أشعر بأن صمتي معهم كان يشكّل ضغطًا..

صديقي وأنا في مستوى عالي من السخافة.. أمس ضحكنا على نكتة -لا أبالغ- صار لنا أربع سنوات على الأقل نضحك عليها، ولأول مرة من وقت طويل أشعر أن قلبي يؤلمني من الضحك. 

أنا إنسان سهل يبتسم، صعب يضحك، صعب جدًا جدًا يضحك من قلب. 

وبعد؟ ابتعادي كان مهمًا لتقدير الهموم المخملية والمزاج المتعكّر، شمسهم كانت طالعة في يوم اللقاء.. كانوا يقولون لي حظّك يا بحر، ترى كل يوم أمطار ورياح.. مدينتهم أهدأ.. سماهم أوسع، والنّاس كأنهم جميعًا أهل. 

هذا ذكرني، أن ما أسميه همومًا مخملية.. له أسباب موجودة وحقيقية، بيئتي تمامًا مختلفة، أمور كثيرة تحكمها وتميزها.. وأنا بطبيعتي.. أحمل نوعًا من الحساسية تستجيب لكل شيء في البيئة المحيطة وتؤثر فيّ.

سهرت لكتابة هذه التدوينة لأني لم أود أن أكرر نفس الخطأ بتأجيل الكتابة، قد تتبع هذه التدوينة بتدوينةٍ أخرى أو أكثر..  على حسب حالة البحر وشدّة الرياح :p

كونوا بخير.

الشمس، تزيّن الأرض والسمَاء.

ردان على “رحلة الشمال، وسواليف كثيرة”

  1. تدوينة تدخل القلب بدون أي استئذان.. هل تدري ما الذي يجعل كتابتك متدفّقة ومليئة بالشعور؟ إنه استكشاف نفسك، جوانبها التي لم تُطرق من قبل.
    استمتعت بقراءتها فعلًا🌸

    Liked by 1 person

    1. أهلًا أسماء، لا أعرف كيف أرد على تعليقٍ لطيف كهذا!
      هل تعرفين أنّي كنتُ أتأمل المدونة وما كتبته في الصباح وأفكّر.. ياترى كيف أصدقاء المدونة يقرؤونها؟ تعليقات مثل تعليقك تعيدني لقراءة التدوينة، أحاول أتخيلها بعيون أخرى غير عيوني.. وهذا صعب بالطبع! xD لكن تعليق مثل تعليقك يساعدني على التخيّل.. شكرًا. هذا يعني لي الكثير، قراءتك لوحدها تعني لي، ويسعدني أن التدوينة تركت شعورًا طيّبا.. شكرًا (:

      Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: