منذ بداية هذا الأسبوع وأنا مفعّل الوضع الأدنى من الطاقة.. ما أعرف إذا هذه جملة أو كلمة صحيحة.. لكنّي كنت أبذل أقل مجهود ممكن، في تعاملي مع النّاس خاصةً.. وحالة البرود مفعلة لأقصى حد..
غير قادر على تفسير هذا الشعور، بداية الأسبوع كان ضيقة بشكلٍ واضح، حتى عندما رأتني أختي قالت”وش هذا الوجه؟ ما تنام وأنت كذا، لازم تروق” وكالعادة.. هل فيه شيء يُذكر يُزعجني أو يضايقني؟ لا..
هذه هي المشكلة، أعتقد أنّي لو كنت أقدر على وضع يدي على سبب واحد وواضح خلف هذا الشعور، لقبلت بأنّي متضايق، أو مكتئب.. أو حزين لهذا السبب.
المشكلة، أنّي لستُ في وضعي العادي.. ولا أستطيع ترك نفسي بشكلٍ كامل ليتسرب فيها هذا الشعور..
بشكلٍ عام.. فيني شيء.. لا أقدر على تحديده، يخفت تارةً ويومض تارةً أخرى.. لكنه موجود.
لاحظ صاحبي هنا حالتي هذه، في البداية كان منزعج من برودي، ثم انزعج أكثر لأنّه يعتقد أنّي لا أعتبره صديق لهذا لا أخبره بعلّتي.. ثم اليوم طلب منّي إجابةً واحدة، سألني “هل هذا تعب أو ضيقة؟” وأجبته، سؤال بسيط! ولكن الإجابة أعقد من هاتين الكلمتين، لذا لا إجابة.
كان الخطة أن نخرج نهاية هذا الأسبوع، مع صاحبٍ ثالث.. لكنّي اعتذرت منهم، ورغم اعتذاري إلا أنّي كنت أشعرُ بحاجةٍ للتعويض، لذا خرجتُ معه اليوم لساعةٍ لشرب القهوة..
موقف آخر، قبل أمس سألني زميل للخروج.. ومن داخلي إجابةً تصرخ بلا، مرّت ساعات وأنا محتار ولا أعرف كيف أردّ عليه.. هذا الشخص، من بضع محادثات فقط عرفت أنه شخص لا أرتاح معه.. ليس هذا وحسب، بل حصل أكثر من موقف منه وضايقني.. لكن بنفس الوقت، أرسم أعذار وأعذار وأعذار..
اعتذرت عن الخروج معه، وكتعويض.. قضيت معه ساعة بين المحاضرات، وكتعويض مرةً أخرى! اتفقت معه على لقاء الأسبوع القادم.
ادفنوني.. أرجوكم، أنا أحتاج أن أُدفن
المشكلة، أن الساعة الواحدة هذه معه كانت كافية لتسحب ماتبقى فيّ من طاقة.. لئيم أنا والله
هذا الشخص، بيني وبينه شيء واحد مشترك يقع ضمن الخلفية الاجتماعية.. المشكلة أنه كان يخبرني بالأمس، أنه مبسوط لأنه وجد شخصًا يشبهه.. في الحقيقة نحن مختلفين جدًا..
هذه مشكلة متكررة ليس معه فقط بل مع عدة أشخاص عرفتهم وقابلتهم في حياتي، النّاس عامةً يبحثون عن شعور الانتماء في النّاس الذين يلتقون بهم.. ومشكلتي أنا.. أنّي أعطي مساحةً كبيرة للطرف الآخر ليعبّر عن أفكاره وشعوره.. وغالبًا أتفهم موقفه، ومن جهة أخرى.. متحفظ جدًا على أفكاري.. وهذا ببساطة شديدة، يجعل الناّس يظنون أني أشبههم.. وهذا غير صحيح.
المشكلة، المشكلة.. أنّي أسأل نفسي، هل هذا يسوى تصير لئيم؟ وترفض الدعوات؟ وتوشح بوجهك؟ لا أعرف لمَ أشعر أنّي كتبتُ عن هذا الموضوع ألف مرّة.. ربما فعلت، لكنّي سأواصل على أيّ حال..
دائمًا أفكّر بالطرف الآخر، أفكّر.. هذا أصغر منّي، هذه تجربته الأولى في الغربة.. ربما لا يرتاح للبقية.. وفي النهاية، علاقاتي الأخيرة هذه.. تشبه المسؤولية أكثر من الرغبة… ما أعرف، كلامي هذا كلّه يبدو غير واضح.. لكنّي سأكمل على أيّ حال..
هذه المشكلة عرضتها على صديقين، الصديق الأول بنفس عمري.. وأسهل ماعنده في الحياة هو التخلّي عن العلاقات، وأعطاني محاضرةً طويلة للتخلّي عن كلّ هذا.. لكن أنا وإياه أصلًا نختلف على بعض المبادئ..
الشخص الثاني الذي استشرته هي صديقة تكبرني بعام وكانت تدرس معي في جامعتي السابقة -يعني شخص شاهد على جنوني في تعاملي مع البشر في بيئة مشابهة- قالت لي ببساطة شديدة “طالب في الجامعة وبعمرك يا بحر مفروض يكون قادر على قول لا بسهولة لمثل هذه العلاقات”.
آخر ماتوصلت له أنا أنّي أرغبُ بانتهاء هذه السنة الدراسية.. الجامعة نفسها لا تزعجني.. على العكس، لكن الجوّ العام بدأ يكتم على نفسي..
كيف أصبّر نفسي؟ أقول كُن طيبًا لآخر نفس، تحمّل قليلًا.. ولا تشح بوجهك.. عندما تعودُ في الصيف إلى الخليج، كلّ هذا سيصير بعيدًا ويتبخّر..
لا أعرف…
ماذا أودّ أن أقول أيضًا؟ سأشارككم مواقف صغيرة حصلت، هذه المواقف التي ترسمُ ابتسامةً على وجهي..
الأسبوع الماضي كنتُ متوجهًا لغرفة الموسيقى التي كنتُ قد حجزتها مسبقًا، وعندما وصلتُ شاهدتُ أحدًا بداخلها لكنّي لم أطرق عليه الباب وتراجعتُ إلى الخلف سريعًا.. لمَ؟ من حقّي أن أدخل الغرفة، لكن.. لأنّي أعرف أنّ المقاطعة أثناء العزف ليست ألطف شيء في العالم، لا أقاطع الآخرين..
لكن، هذا الشخص.. لمح خيالي يمرّ من خلال الباب، كان يعزف لكن يبدو إنه كان متيقظًا بشدة.. خرج من الغرفة باتجاهي، سألني إن كنت قد حجزت الغرفة فرددتُ بالإيجاب.. فقال إنه كان يلعب فقط وينتظر مجيء أحدهم ليترك الغرفة، اعتذر.. وتمنى لي تدريبًا ممتعًا.. شكرته، وذهب.
موقف آخر.. صغير جدًا!
كنتُ في القطار، وجاءت امرأة وأجلست ابنها بجانبي وجلست هي في الكرسي المقابل، ثم انتبهت إنها تنحني أمامه لتبدل ملابسه، فوقفت وطلبتُ منها أن تأخذ مقعدي.. قالت لي أكيد؟ طبعًا.. فجلست وبدأت تشكرني، وتخبرني أنه ملابسه تبللت من المطر لهذا تحتاج تغييرها.. كنتُ أومئ وأبتسم فقط، عندما وصلت إلى محطتي وهممت بالخروج التفت لي مجددًا لتشكرني مرةً أخرى!
ماذا فعلت أنا؟ لا شيء.. لكن مثل هؤلاء النّاس.. لا يأخذون الأفعال البسيطة جدًا بشكلٍ مسلّم به.. وهذا يجعلني أفكّر.. أتساءل، مالذي.. يرسم هذا الفرق بين النّاس؟ ويزيد أو ينقص من شعورهم بالاستحقاق وبالتالي تقدير الأشياء صغيرها وكبيرها؟.. أو.. لا توجد أي علاقة!
حتى عازف البيانو، لو شخص آخر رآني أتراجع ببساطة لقال هذا لا يرغب بالتدرب و”وش عليّ أنا من النّاس وش على النّاس منّي” وأكمل تدريبه..
موقفٌ ثالث!
قبل أمس ركبتُ القطار، وبشكلٍ غريب وغير معتاد.. كان المسؤول عن القطار يستخدمُ مكبر الصوت و يتحدّث بطريقة تنسيك أنّك داخل قطار.. وتوهمك أنك دخلت مسرحًا أو برنامجًا صباحيًا أو شيء من هذا القبيل..
أول ماسمعته ابتسمت.. كانت ساعة الصباح المكتظة تلك! وكان يقف شابٌ مقابلي ينظر إليّ باستغراب.. لم أكن أنظر إلى شاشة هاتفي أو أفعل أي شيء يفسّر ابتسامتي البلهاء تلك، في نفس الوقت نظرت إليّ شابة مقابلنا نحن الاثنان.. أظنّها فهمت مايثير ابتسامتي، ضحكت، وانتهى بنا الأمر نحن الثلاثة نضحك!
بعدها، أنا المغيّب عن العالم عرفتُ إن هناك إضرابات بين عمال القطارات، وأنّي لن أستطيع إكمال طريقي إلى الجامعة.. نزلت، وصعدت مجددًا القطار نفسه.. والتقيت بمسؤول القطار الذي كان خلف مكبّر الصوت.. رجلٌ ملتحي بلحية سوداء ويخطها الشيب، سألني كيف حالك؟ وهذا أمر شديد الندرة! أجبته بخير، أنت كيف حالك؟ قال عظيم! يوم جميل والشمس طالعة.. لا أطلب أكثر! ويمشي.. وتتوهج منه طاقةً غريبة!
يومها أخذني الطريق ساعتين ونصف عوضًا عن نصف ساعة، أخذت القطار، ثم الحافلة.. ثم مشيت، وانتهى اشتراك النت في جوالي في اليوم نفسه، اعتمدتُ على اللافتات في الطريق والخريطة التي يحملها عقلي، قرأتُ في رواية “دوائر” لأحمد الحقيل.. عن الشعور الثقيل الذي أثاره فيّ ضياع ضاري وإبراهيم في الصحراء.. وأنا -التنكة- شاكّ بقدرتي على الوصول إلى الجامعة.. في وسط مدينةٍ كبيرة.
ماعلينا، إضرابات في القطارات، وإضرابات في الجامعة.. تعرفون كيف أثّر هذا على المكان؟ المدينة.. والجامعة؟ هدوء…
هدوء
هدوء
ينبتُ ربيعًا في صدري..
أظن أني في الفترة الأخيرة أفعلُ أشياء كثيرة تعاكس طبيعتي، الحساسية الشديدة.. والإنطوائية، الإنطوائية.. والحساسية الشديدة.. لا أعرف من فيهما تؤثر في الأخرى أكثر.. لكن أعرف إنهما صفتان أساسيتان في تكويني.. يمكنني كتابة تدوينة كاملة اسمها ” الإنطوائية والحساسية” وأفضح نفسي فيها.. كأنّ كل هذا الذي كتبته ليس بتعرّي وانكشاف وفضائح!
المهم، اليوم اختتم بختام طيّب، قابلتُ زميلتي التي أعملُ معها يوم الجمعة.. سأكتب قريبًا إن شاءالله عن هذه التجربة، فقط أنتظر ختامها.. وكنتُ سعيدًا لأن أدائنا اليوم كان ممتازًا، ولأننا ببساطة نملك بعض الصفات المشتركة التي تسهّل التواصل بيننا.
وماذا بعد؟ ماذا بعد؟
أظنني لو انسدحت بجانب هذه التدوينة، لكننا بالطول نفسه.. كان الجو لطيفًا عندما خرجت من الجامعة، عدتُ لألتقط لكم الربيع وهو يحاول أن يحتلّنا بعد صباحٍ ممطر.. وكتبتُ جزءً من هذه التدوينة في الهواء الطلق على غير العادة، وجزءً آخر في الداخل.
ياكثر الكلام يابحر، هذا كلّه نتيجة البرود الذي تلبسّك لأسبوع.

اترك تعليقًا